فصل: الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر

اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية‏.‏ وفي النثر وهو الكلام غير الموزون وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام‏.‏ فأما الشعر فمنه المدح والهجاء والرثاء‏.‏ وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعاً ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعاً ومنه المرسل وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالاً من غير تقييد بقافية ولا غيرها‏.‏ ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم‏.‏ وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارخ عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقًا ولا مسجعاً‏.‏ بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها‏.‏ ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ قد فصلنا الآيات ‏"‏‏.‏ وتسمى آخر الآيات فيه فواصل إذ ليست أسجاعاً ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع ولا هي أيضاً قواف‏.‏ واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا ولهذا سميت السبع المثاني‏.‏ وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برحجان ما قلناه‏.‏ واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر والحمد والدعاء المختص بالخطب والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك‏.‏ وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينة في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض‏.‏ وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن‏.‏ واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق‏.‏ وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب‏.‏ وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تباح فيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب‏.‏ والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه‏.‏ والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر‏.‏ وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة وكناية واستعارة‏.‏ وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته‏.‏ وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه‏.‏ ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية ويغفلون عما سوى ذلك‏.‏ وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس‏.‏ ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس‏.‏ فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه‏.‏ والله الموفق للصواب بمنه وكرمه والله تعالى أعلم‏.‏ في أنه لا تتفق الإجادة‏.‏ ‏.‏ في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة‏.‏ لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر‏.‏ وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المدة القابلة وعائقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة‏.‏ وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق‏.‏ وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان‏.‏ فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة‏.‏ وانظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً‏.‏ فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمة وعلمه‏.‏ وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي‏.‏ وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه عن الغاية والتحصيل وما أتى إلا من قبل اللسان‏.‏ وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع‏.‏ وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم‏.‏ وإن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية‏.‏ والله خلقكم وما تعلمون‏.‏

  الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه

هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم ويوجد في سائر اللغات إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب‏.‏ فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه‏.‏ وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة‏.‏ وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رؤياً وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة‏.‏ وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده‏.‏ وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته‏.‏ ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك ويسترد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطىء المقصود الأول ومعانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني ويبعد الكلام عن التنافر‏.‏ كما يستطرد من النسيب إلى المدح ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك‏.‏ ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه‏.‏ فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس‏.‏ ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض‏.‏ وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملتة العرب في هذا الفن وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور‏.‏ وقد حصروها في خمسة عشر بحراً بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً‏.‏ واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم‏.‏ وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها‏.‏ والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم حتى يحصل شبه في تلك الملكة‏.‏ والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده ويصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلاً بنفسه‏.‏ ثم يأتي ببيت آخر كذلك ثم ببيت أخر ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده‏.‏ ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة‏.‏ ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكاً للقرائح في استجاده أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه‏.‏ ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصتة العرب بها وباستعمالها فيه‏.‏ ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم‏.‏ فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه‏.‏ ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض‏.‏ فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية وإنما ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص‏.‏ وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرضها فيه رضاً كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله‏:‏ يا دار مية بالعلياء فالسند‏.‏ وبكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله‏:‏ قفا نسأل الدار التي خف أهلها‏.‏ أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله‏:‏ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل‏.‏ أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله‏:‏ ألم تسأل فتخبرك الرسوم‏.‏ ومثل تحية الطلول بالأمير لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله‏:‏ أسفي طلولهم أجش هذيم وغدت عليهم نضرة ونعيم أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله‏:‏ يا برق طالع منزلاً بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله‏:‏ كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر أو باستعظام الحادث كقوله‏:‏ أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله‏:‏ منابت العشب لاحام ولا راع مضى الردى بطويل الرمح والباع أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية‏:‏ أياشجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف أو بتهنئة قريعه بالراحة من ثقل وطأته كقوله‏:‏ ألق الرماح ربيعة بن نزار أوس الردى بقريعك المغوار وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه‏.‏ وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائية وخبرية أسمية أو فعلية متفقة وغير متفقة مفصولة وموصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى‏.‏ يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها‏.‏ فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه‏.‏ فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً‏.‏ ولا تقولن إن حرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك لأنا نقول‏:‏ قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس‏.‏ وهو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية‏.‏ وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب جريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق‏.‏ وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لايفيد تعليمه بوجه‏.‏ وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه االعلمية استعملوه‏.‏ وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون كلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية‏.‏ فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس‏.‏ ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم‏.‏ وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في منثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاءوا به مفصلاً في النوعين‏.‏ ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة وفي منثور يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً وقد يقيدونه بالأسجاع‏.‏ وقد يرسلونه وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب‏.‏ والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال‏.‏ فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي‏.‏ نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب‏.‏ ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً‏.‏ وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حداً أورسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض‏.‏ فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه‏.‏ وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له‏.‏ وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها‏.‏ وذلك نظر في وزن مجرد عن الألفاظ ودلالتها فناسب أن يكون حداً عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة‏.‏ فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول‏:‏ الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به‏.‏ فقولنا الكلام البليغ جنس وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء‏.‏ وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعراً إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور‏.‏ وكذ أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب فلا يسمى شعراً‏.‏ وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجربا على أساليب العرب فيه وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم‏.‏ ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة‏.‏ إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول‏:‏ اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً أولها‏:‏ الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في التفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب‏.‏ وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن أيي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس‏.‏ وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة لإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية‏.‏ ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ‏.‏ فمن قل حفظة أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط‏.‏ واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ‏.‏ ثم بعد لامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ‏.‏ وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه حرفية الظاهرة إذ هي صادة عن استعمالها بعينها‏.‏ فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة‏.‏ ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا من مسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور‏.‏ ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك منوال الذي في حفظه‏.‏ قالوا‏:‏ وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هواء الجمام‏.‏ وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله‏.‏ قلوا‏:‏ فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولايكره نفسه عليه‏.‏ وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها‏.‏ فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة قليتخير فيها ما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة‏.‏ فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب‏.‏ والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة‏.‏ وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة‏.‏ ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده‏.‏ وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم‏.‏ وإنما المختار منه ما كانت ألفاظة طبقاً على معانيه أو أوفى منها‏.‏ فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً واشتغل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة‏.‏ ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن‏.‏ ولهذا كان شيوخنا رحمهم اللة يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعده النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق‏.‏ وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة‏.‏ وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم‏:‏ النار حارة والسماء فوقنا‏.‏ وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان‏.‏ ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول‏.‏ وفي القليل على العسر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك‏.‏ وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال‏.‏ وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى فى كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد‏.‏ ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه لبغية من ذلك‏.‏ وهذه نبذة كافية والله المعين‏.‏ وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها‏.‏ ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق‏:‏ لعن اللة صنعة الشعر ماذا من صنوف الجهال فيها لقينا يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلاً للسامعين مبينا ويرون المحال معنى صحيحاً وخسيس الكلام شيئاً ثميناً يجهلون الصواب منه ولايد رون للجهل أنهم يجهلونا فهم عند من سوانا يلامو ن وفي الحق عندنا يعذرونا فأتى بعضه يشاكل بعضاً وأقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما تتمنى لو لم يكن أو يكونا فتناهى من البيان إلى أن كاد حسناً يبين للناظرينا فكأن الألفاظ منه وجوه والمعاني ركبن فيه عيونا قائماً في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا فإذا ما مدحت بالشعر حراً رمت فيه مذاهب المشتهينا فجعلت النسيب سهلاً قريباً وجعلت المديح صدقاً مبينا وتنكبت ماتهجن في السمع وإن كان لفظه موزونا وإذا ما قرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا فجعلت التصريح منه دواء وجعلت التعريض داء دفينا وإذا ما بكيت فيه على الغا دين يوماً للبين والظاعنينا حلت دون الأسى وذللت ما كا ن من الدمع في العيون مصونا فإذا قيل أطمع الناس طراً وإذا ريم أعجز المعجزينا ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي‏:‏ الشعرما قومت زيغ صدوره وشددت بالتهذيب أس متونه ورأيت بالإطناب شعب صدوعه وفتحت بالإيجاز عور عيونه وجمعت بين قريبه وبعيده ووصلت بين مجمه ومعينه وعمدت منه سحد أمر يقتضى شبهاً به فقرينه بقرينه وإذا مدحت به جواداً ماجداً وقضيته بالشكر حق ديونه أصفيته بنفيسه ورصينه وخصصته بخطيره وثمينه فيكون جزلاً في مساق صنوفه ويكون سهلاً في اتفاق فنونه وإذا بكيت به الديار وأهلها أجريت للمحزون ماء شئونه وإذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره وبطونه فجعلت سامعة يشوب شكوكه بثنائه وظنونه بيقينه تيمتها بلطيفه ورقيقه وشغفتها بخبيه وكمينه وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها وأشكت بين مخيله ومبينه فيحول ذنبك عندمن يعتده عتباًعليه مطالباً بيمينه

  الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر

إنما هي في الألفاظ لا في المعاني اعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنما المعاني تبع لها وهي أصل‏.‏ فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجرية على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم‏.‏ وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تصل شأن الملكات والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ وأما المعاني فهي في الضمائر‏.‏ وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طوع كل فكر منها مايشاء ويرضى فلا تحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها‏.‏ وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني‏.‏ فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف والماء واحد في نفسه‏.‏ وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء‏.‏ كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد‏.‏ والمعاني واحدة في نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه‏.‏ والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‏.‏

  الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ

قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ‏.‏ فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد لأصبهاني لنزول طبقة هؤلا عن أولئك‏.‏ يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق‏.‏ وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما‏.‏ فبارتقاء المحفوظ فى طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها‏.‏ وذلك أن النفس وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات‏.‏ واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والآلوان التي تكيفها من خارج‏.‏ فبهذه يتم وجودها وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها‏.‏ والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه‏.‏ فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه وينقلب ربانياً وكذا سائرها‏.‏ وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم‏.‏ وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب‏.‏ أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال‏:‏ ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا‏:‏ لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي فقال لي على البديهة‏:‏ هذا شعر فقيه فقلت له ومن أين لك ذلك قال من قوله‏:‏ ما الفرق إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب فقلت له‏:‏ لله أبوك وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم له الجيد من الكلام‏.‏ ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له‏:‏ أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلاً‏.‏ وإنما أتيت والله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية‏.‏ فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والضغرى في القرا آت والرسم واستظهرتهما وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب فعاق القريحة عن بلوغها فنظر إلي ساعة متعجباً ثم قال‏:‏ لله أنت وهل يقول هذا إلا مثلك‏.‏ ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرر فيه سر آخر وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم‏.‏ فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدراً من الدولة العباسية في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للفلوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم‏.‏ والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة‏.‏ والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة‏.‏ وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة‏.‏ ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا وكان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوماً‏:‏ ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلاً ثم قال لي‏:‏ والله ما أدري‏!‏ فقلت له‏:‏ أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك ولعله السبب فيه‏.‏ وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً ثم قال لي‏:‏ يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب‏.‏ وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم‏.‏ والله خلق الإنسان وعلمه البيان‏.‏

  الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله

إعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب إنما سره وروحه في إفادة المعنى‏.‏ وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به‏.‏ وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال هو فن البلاغة‏.‏ وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين‏.‏ فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين بشروط وأحكام جل قوانين العربية‏.‏ وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير وتعريف وتنكير وإضمار وإظهار وتقييد وإطلاق وغيرها يفيد الأحكام المكتنفة من خارج الإسناد وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة‏.‏ فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد‏.‏ وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات‏.‏ ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه فيكون فيها مجازاً‏:‏ إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة وأشد‏.‏ لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله‏.‏ والظفر من أسباب اللذة كما علمت‏.‏ ثم لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة وسموها بالبيان‏.‏ وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها‏.‏ وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب انفسها من حيث الدلالة‏.‏ واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت‏.‏ فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة وبهما كمال الإفادة فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال‏.‏ فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته‏.‏ ثم اعلم أنهم إذا قالوا‏:‏ ‏"‏ الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه لأنه عبارة وخطاب ليس المقصود منه النطق فقط‏.‏ بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة ويدل به عليه دلالة وثيقة‏.‏ ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه والمطابقه بين المتضادات ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني يحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوة وجمال كلها زائدة على الإفادة‏.‏ وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعقلة مثل‏:‏ ‏"‏ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ‏"‏ ومثل‏:‏ ‏"‏ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ‏"‏ إلى آخر التقسيم في الآية‏.‏ وكذا‏:‏ ‏"‏ فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ‏"‏ إلى آخر الآية‏.‏ وكذا‏:‏ ‏"‏ هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ‏"‏‏.‏ وأمثاله كثير‏.‏ وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها‏.‏ وكذا وقع في كلام الجاهلية منه لكن عفواً من غير قصد ولاتعمد‏.‏ ويقال إنه وقع في شعر زهير‏.‏ وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً وأتوا منه بالعجائب‏.‏ وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد فقد كانوا مولعين بالصنعة ويأتون منها بالعجب‏.‏ وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة وكانا آخر من يسشهد بشعره في اللسان العربي‏.‏ ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس‏.‏ وجاء على آثرهم حبيب والبحتري‏.‏ ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع‏.‏ ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة مثل قول قيس بن ذريح‏:‏ وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا وقول كثئر‏:‏ وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت فتأمل هذا المطبوع الفقيد الصنعة في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه‏.‏ فلو جاءت فيه الصنعة من وأما المصنوع فكثير من لدجن بشار ثم حبيب وطبقتهما ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم ونسجوا على منوالهم‏.‏ وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها‏.‏ وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة وأنها هي تعطي التحسين والرونق‏.‏ وأما المتقدمون من أهل البديع فهي عندهم خارجة عن البلاغة‏.‏ ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها‏.‏ وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له وأدباء الأندلس‏.‏ وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً منها أن تقع من غير تكلف ولا اكتراث في ما يقصد منها‏.‏ وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلائم من غيب الاستهجان لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام فتخل بالإفادة من أصلها وتذهب بالبلاغة رأساً‏.‏ ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق في البلاغه يسخرون من كلفهم بهذه الفنون ويعدون ذلك من القصور عن سواه‏.‏ وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه يقول‏:‏ إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن اشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره وقد عوقب بأشد العقوبة ونودي عليه يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة فيكلفون بها ويتناسون البلاغة‏.‏ ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثة من القصيد فتكفي في زينة الشعر ورونقه‏.‏ والإكثار منها عيب قاله ابن رشيق وغيره‏.‏ وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي متفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول‏:‏ هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها لأنها من محسنات الكلام ومزيناته فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها ويقبح بتعدادها‏.‏ وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام‏.‏ وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة‏.‏ حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب‏.‏ وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية‏.‏ وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة‏.‏ ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات والعربيات بالسوقيات‏.‏ واختلط المرعي بالهمل‏.‏ وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف قاصر عن الكلام المطبوع لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة والحاكم في ذلك الذوق‏.‏ الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‏.‏ في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر اعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم‏.‏ وكان رؤساء العرب متنافسين فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر لتمييز حوكه‏.‏ حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس بن حجر والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع‏.‏ فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات‏.‏ ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً‏.‏ ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة‏.‏ ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى دينهم منه‏.‏ وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً به‏.‏ ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها‏.‏ ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان‏.‏ والعرب يطالبون ولدهم بحفظها‏.‏ ولم يزل الشاذ هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس‏.‏ وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك والرسوخ فيه والعناية بانتحاله والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه‏.‏ ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة ولقصيرها باللسان وإنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتري والمتنيي وابن هانىء ومن بعدهم إلى هلم جرا‏.‏ فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفاً‏.‏ وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتفخرين وتغير الحال فيه وأصبح تعاطيه هجنه في الرئاسة ومذمة هل المناصب الكبيرة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار‏.‏ في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية‏.‏ وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق‏:‏ أوميروس الشاعر وأثنى عليه‏.‏ وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون‏.‏ ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات‏.‏ وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف وخالفت أيضاً لغة الجيل من العرب لهذا العهد‏.‏ واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضاً لغة أهل الأندلس وأمصاره‏.‏ ثم لما كان الشعر موجوداً بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة‏.‏ بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم‏.‏ فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأعراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطيردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام‏.‏ وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم‏.‏ وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون‏.‏ فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب‏.‏ في أشعارهم‏.‏ وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسي وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية‏.‏ ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد‏.‏ ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به مغصناً على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيهاً بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين‏.‏ ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون عن ذلك والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصاً علم اللسان يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها‏.‏ وهذ إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم‏.‏ فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس‏.‏ وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه‏.‏ فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة‏:‏ فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة‏.‏ ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك‏.‏ وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر‏.‏ ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب‏.‏ فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب‏:‏ يفز للأعلام اين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرها وماذا شكاة الروح مما طرا لها غداة وزائع تلف الله خبيرها يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى وهند جافي‏.‏ ذكيرها وعادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها تجابذوها اثنين والنزع بينهم على شوك لعه والبقايا جريرها وباتت دموع العين ذارفات لشأنها شبيه دوار السواني يديرها تدارك منها النجم حذراً وزادها مرون يجي متراكباً من صبيرها يصب من القيعان من جانب الصفا عيون ولجاز البرق في غزيرها هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها ونادى المنادي بالرحيل وشددوا وعرج عاريها على مستعيرها وشد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها وقال لهم حسن بن سرحان غربوا وسوقوا النجوع إن كان أنا هوغفيرها ورجع يقول لهم بلال بن هاشم بحر البلادالعطشى ما بخيرها حرام على باب بغداد وأرضها داخل ولاعائد ركيزه من نعيرها تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم على الشمس أو حول الغظا من هجيرها وباتت نيران العذارى قوادح يلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها ومن قولهم في رثاء أمير رناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكم‏:‏ تقول فتاة الحي سعدى وهاضها لها في ظعون الباكرين عويل أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة خذ النعت مني لاتكون هبيل تراه يعالي وادي ران وفوقه من الربط عيساوي بناه طويل أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقاً واليراع دليل أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كأفواه المزاد تسيل أيا جائزاً مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريد رحيل تبدى ماضي الجبار وقال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش أشكر أعد ما بقي ود بيننا صرانا عريب عرباً لابسين نماش نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو ومن عمر بلاده عاش إن كان نبت الشول يلقح بأرضكم هنا العرب مازدنا لهن صياش ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه‏:‏ وأي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم وأي رجال ضاع قبلي جميلها لقد كنت أنا وياه فى زهو بيتنا عناني بحجة وأغباني دليلها وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ماقدر من يميلها أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريباً وهي مدوخه عن قبيلها أتاها زمان السوء حتى تدوحت وهي بين عرباً غافلاً عن نزيلها كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها ومن شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك إفريقية من الموحدين‏:‏ يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها يا من لقلب حالف الوجد والأسى وروح هيامي طال مافي سقامها حجازية بدوية عربية عداوية ولها بعيد مرامها مولعة بالبدو لاتألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها غيات ومشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها ومرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري غمامها وماذا بكت بالما وماذا تناحطت عيون غزار المزن عذباً حمامها كأن عروس البكر لاحت تيابها عليها ومن نور الأقاحي خزامها فلاة ودهنا واتساع ومنة ومرعى سوى مافي مراعي نعامها ومشروبها من مخض ألبان شولها غنيم ومن لحم الجوازي طعامها فكافأتها بالود مني وليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامها وكم من رداح أسهرتني ولم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها وكم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي وشامها وصفقت من وجدي عليها طريحة بكفي ولم ينسى جداها ذمامها ونار بخطب الوجد توهج في الحشا وتوهج لايطفا من الماء ضرامها أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها بنود ورايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ورمحي على كتفي وسيري أمامها بجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها عليهم ومن هو في حماهم تحية مدى الدهر ماغنى يفينا حمامها فدع ذا ولاتأسف على سالف مضى ففي الدنيا ما دامت لأحد دوامها ومن أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر شيخ الكعوب ومن أولاد أبي الليل يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه‏:‏ يقول وذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعاني صعابها يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنوناً من إنشاد القوافي عذابها محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي ودابها وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها أشبل جنيناً من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عادياً في حرابها سواها طفاها أضرمت بعد طفيه وأثنى طفاها جاسراً لا يهابها وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار وهي عن كبر الأسنة تهابها كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقي بها ومنا في العتاب‏:‏ وليداً تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها ولا بعدها الإرهاف وذبل ورزق كألسنة الحناش انسلابها بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا والمطايا ركابها وهي عالماً بأن المنايا تنيلها بلا شك والدنيا سريع انقلابها ومنها في وصف الظعائن‏:‏ قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها ومن قولهم في الأمثال الحكمية‏:‏ وطلبك في الممنوع منك سفاهة وصدك عمن صد عنك صواب إذا رأيت أناساً يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم‏:‏ الشيب وشبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا‏:‏ يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال وقال صواب مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن هريجاً ولا فيما يقول ذهاب تهجست معنا نابها لا لحاجة ولا هرج ينقاد منه معاب وكنت بها كبدي وهي نعم صابة حزينة فكر والحزين يصاب تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود واتساع جناب وبعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي يقينه صواب وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعاً وفي جو الضمير كتاب وبعضهمو جانا جريحاً تسمحت خواطر منها للنزيل وهاب وبعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ما عنا به ساب رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه مراراً وفي بعض المرار يهاب وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب فصمناه عنه واقتضي منه مورد على كره مولى البالقي ودياب ونحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب وحزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقاً ورقاب ومهد من الأملاك ما كان خارجاً على أحكام والي أمرها له ناب بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم وطاب وساقوا المطايا بالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بحلاب وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخائم لحزات الزمان تصاب وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا وإلا هلالا في زمان دياب وكانوا لنا درعاً لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ملامه ولا دار الكرام عتاب كسوا الحي جلباب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب كذلك منهم حابس ما دار النبأ ذهل حلمي أن كان عقله غاب يظن ظنوناً ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب خطا هو ومن واتاه في سو ظنه بالإثبات من ظن القبائح عاب فواعزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لألاف بغير حساب وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب وأنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها وقباب وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار وخلف حجاب يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا بحسن قوانين وصوت رباب يضلوه عن عدم اليمين وربما يطارح حتى ما كأنه شاب بهم حازله زمه وطوع أوامر ولذة مأكول وطيب شراب حرام على ابن تافر كين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب وإن كان له عقل رجيح وفطنة يلجج في اليم الغريق غراب وأما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب ويحمى بها سوق علينا سلاعه ويحمار موصوف القنا وجعاب ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما ولا يمسي صحيح بناب أيا واكلين الخبز تبغوا ادامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب ومن شعرعلي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني غدا منه لأم الحي حيين وأنشطت عصاها ولاصبنا عليه حكام ولكن ضميري يوم بأن بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام وإلا كأبراص التهامي قوادح وبين عواج الكانفات ضرام وإلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق وخام ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى وحله والقطين لمام وغيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر ونيام ونعم يشوف الناظرين التحامها لنا مابدا من مهرق وكظام وعرود باسمها ليدعو لسربها وإطلاق من شرب المها ونعام واليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على أطلال لها وخيام وقفنا بها طوراً طويلاً نسألها بعين سخينا والدموع سجام ولاصح لي منها سوى وحش خاطري وسقمي من أسباب أن عرفت أوهام ولاقستمو فيها قياساً يدلكم وليس البحورالطاميات تعام وعانوا على هلكاتكم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام أياعزوة ركبوا الضلالة ولا لهم قرار ولا دنيا لهن دوام ألا عناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام وحق النبي والبيت وأركانه العلى ومن زارها في كل دهر وعام لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام ولابرها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب وحسام وكل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام وكل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة وتولدنا من كل ضيق كظام بالأبطال والقود الهجان وبالقنا لها وقت وجنات البدور زحام كذلك بوحمو إلى اليسر أبعته وخلى الجياد العاليات تسام وخل رجالاً لا يرى الضيم جارهم ولايجمعوا بدهى العدو زفام ألا يقيموها وعقد بؤسهم وهم عذرعنه دائماً ودوام وكم ثار طعنها على البدو سابق مابين صحا صيح ومابين حسام فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام وكما ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا غدا طبعه يجدي عليه قيام عليكم سلام الله من لسن فاهم ماغنت الورقا وناح حمام ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول‏:‏ تقول فتاة الحي أم سلامة بعين أراع الله من لارثى لها تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها على ما جرى في دارها وبو عيالها بلحظة عين البين غير حالها أيا حين تسريح الذوائب واللحى وبيض العذارى ما حميتو جمالها الموشحك والأزجال للأندلس وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتفخرون منهم فناً منه سموه بالموشح وينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة‏.‏ ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات‏.‏ ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد‏.‏ وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه‏.‏ وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم ابن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني‏.‏ وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما‏.‏ فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية‏.‏ وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول‏:‏ كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما بدرتم شمس ضحى غصن نقا مسك شم ما أتم ما أوضحا ما أورقا ما أنم لاجرم من لمحا قد عشقا قد حرم وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن‏.‏ الطوائف‏.‏ وجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة‏.‏ قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول‏:‏ العدو قد ترنم بأبدع تلحين وسقت المذانب رياض البساتين وفي انتهائه حيث يقول‏:‏ تخطر ولا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ثم يحيى بن بقي وللطليطلي من الموشحات المهذبة قوله‏:‏ كيف السبيل إلى صبري وفي المعالم أشجان والراكب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله‏:‏ ضاحك عن جمان سافرعن بدر ضاق عنه الزمان وحواه صدري حرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون‏.‏ وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول‏:‏ ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له‏:‏ أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض‏.‏ وكان في عصرهما أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة‏.‏ ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها‏:‏ جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر فطرب الممدوح لذلك فلما ختمها بقوله‏:‏ وطرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح‏:‏ واطرباه وشق ثيابه وقال‏:‏ ما أحسن ما بدأت وما ختمت وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب‏.‏ فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه‏.‏ وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكير بن زهر‏.‏ ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغض منه أحد الحاضرين فقال كيف تغض مم يقول‏:‏ ما لذ لي شرب راح ل # على رياض الأقاح لا هضيم الوشاح إذا انثنى في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول‏:‏ ماللشمول لطمت خدي وللشمال غضن اعتدال ضمه بردي مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظه رد نوبا‏!‏ ويا لماه الشنيبا برد غليل صب غليل لا يستحيل فيه عن العهد ولا يزال في كل حال يرجو الوصال واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف‏.‏ قال الحسن بن دويريدة‏:‏ رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح‏:‏ شمس قاربت بدراً راح ونديم وابن هردوس الذي له‏:‏ ياليلة الوصل والسعود بالله عودي وابن مؤهل الذي له‏:‏ ما العيد في حلة وطاق وشم طيب وإنما العيد في التلاقي مع الحبيب وأبو إسحق الرديني قال ابن سعيد‏:‏ سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول إنه دخل على ابن زهر وقد أسن وعليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن أستبه فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس‏.‏ وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشحة وقع فيها‏:‏ كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح ومعصم النهر في حلل خضر من البطاح فتحرك ابن زهر وقال‏:‏ أنت تقول هذا قال‏:‏ اختبر‏!‏ قال‏:‏ ومن تكون فعرفه فقال‏:‏ ارتفع‏!‏ فوالله ما عرفتك‏.‏ قال ابن سعيد‏:‏ وسابق الحلبة التى أدركت هؤلاء أبو بكر بن زهر وقد شرقت موشحاته وغربت‏.‏ قال‏:‏ وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول‏:‏ قيل لابن زهر لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التوشيح ما كنت تقول قال كنت أقول‏:‏ ما للموله من سكره لا يفيق يا له سكران من غير خمر ما للكئيب المشرق يندب الأوطان هل تستعاد أيامنا بالخليج وليالينا أو يستفاد أو هل يكاد حسن المكان البهيج أن يحيينا روض أظله دوح عليه أنيق مورق الأفنان والماء يجري وعائم وغريق من جنى الريحان واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله‏:‏ يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد وعين وينشد في القصيد‏:‏ خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج ثم انعطفنا وعلى فم الخليج نفض في حانه مسك الختام عن عسجد زانه صافي المدام ورداء الأصيل ضمه كف الظلام قال ابن زهر‏:‏ أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرف‏.‏ أخبر ابن سعيد عن والده مطرفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه فقال لا تفعل‏!‏ فقال ابن الفرس‏:‏ كيف لا أقوم لمن يقول‏:‏ قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد وبعد هذا ابن حزمون بمرسية‏.‏ ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون‏:‏ لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف قال على مثل ماذا قال على مثل قولي‏:‏ ياهاجري هل إلى الوصال منك سبيل أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة‏.‏ قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله‏:‏ إن سيل الصباح في الشرق عاد بحراً في أجمع الأفق أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل قال ابن سعيد عن والده سمعت سهل ابن مالك يقول له‏:‏ يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك‏:‏ واحسرتا لزمان مضى عشية بان الهوى وانقضى وأفردت بالرغم لا بالرضى وبت على جمرات الغضى أعانق بالفكر تلك الطلول وألثم بالوهم تلك الرسوم قال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة فما سمعته يقول له لله درك إلا في قوله‏:‏ قسماً بالهوى لذي حجر مالليل المشوق من فجر جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد اصح ياليل إنك الأبد أوقفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري ومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله‏:‏ ماحال صب ذي ضنى واكتئاب أمرضه يا ويلتاه الطبيب عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب وذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء وشاء الوصال فلست باللائم من صدني بصورة الحق ولا بالمحال واشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزايري صاحب الموشحة المشهورة‏:‏ يد الأصباح قدحت زناد الأنوار في مجامر الزهر وابن خرز البجائي وله من موشحة‏:‏ ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله‏:‏ هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس فهو في نار وخفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد مر ذكره فقال‏:‏ جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس‏!‏ في الكرى أو خلسة المختلس‏!‏ إذ يقود الدهر أشتات المنى تنقل الخطو على ما ترسم زمراً بين فرادى وثنا مثل ما يدعو الحجيج الموسم والحيا قد جلل الروض سنا فسنا الأزهار فيه تبسم وروى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس فكساه الحسن ثوباً معلما يزدهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمت سر الهوى وطر مافيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصر حين لذ النوم شيئاً أو كما هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس أي شيء لامرىء قد خلصا فيكون الروض قد كنن فيه تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه فإذا الماء تناجى والحصى وخلا كل خليل بأخيه يسرق السمع بأذني فرس يا أهيل الحي من وادي الغضا‏!‏ وبقلبي مسكن أنتم به‏!‏ ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه فأعيموا عهد أنس قد مضى تعتقوا عبدكم من كربه واتقوا الله وأحيوا مغرما يتلاشى نفساً في نفس حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس وبقلبي منكم مقترب قد تساوى محسن أو مذنب في هواه بين وعد ووعيد ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس سدد السهم وسمى ورمى ففؤادي نهبة المفترس إن يكن جار وخاب الأمل وفؤاد الصب بالشوق يذوب فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها وقلوب ويجازي البر منها والمسي ما لقلبي كلما هبت صبا عاده عيد من الشرق جديد جلب الهم له والوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد كان في اللوح له مكتتبا قوله‏:‏ إن عذابي لشديد‏!‏ لاعج من أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس لم تدع في مهجتي إلا ذما كبقاء الصبح بعد الغلس سلمي يانفس في حكم القضا واصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب الكريم المنتهى والمنتمى أسد السرح وبمر المجلس ينزل النصر عليه مثل ما ينزل الوحي بروح القدس وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموثسحات‏.‏ ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها‏:‏ حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار تنظر المسك على كافور في جلنار كللي ياسحب تيجان الربى بالحلى واجعلي سوارها منعطف الجدول ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أن يلتزموا فيها إعراباً‏.‏ واستحدثوا فناً سموه بالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة‏.‏ وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم يظهر حلاها ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه‏.‏ وكان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق‏.‏ قال ابن سعيد‏:‏ ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب‏.‏ قال‏:‏ وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي إمام الزجالين في عصرنا يقول‏:‏ ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال‏:‏ وعريش قد قام على دكان بحال رواق وأسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق وفتح فمه بحال إنسان بيه الفراق وانطلق من ثم على الصفاح وألقى الصياح وكان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيراً ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن‏.‏ وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم‏.‏ وكانوا مجتمعين في زورق للصيد فنظموا في وصف الحال وبدأ منهم عيسى البليدي فقال‏:‏ يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو وقد ضمني عشقو لشهماتو تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي‏:‏ نشب والهوى من لج فيه ينشب ترى إيش دعاه يشقى ويتعذب مع العشق قام في بالوان يلعب وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا ثم قال أبو الحسن المقري الداني‏:‏ نهارمليح يعجبن أوصافو شراب وملاح من حولي قد طافوا والمقلين يقول من فوق صفصافو والبوري أخرى فقلاتو ثم قال أبو بكر بن مرتين‏:‏ الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه والبوري والصياد ثم قال أبو بكر بن قزمان‏:‏ إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها وليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود وله محاسن من الزجل منها قوله‏:‏ قد كنت منشوب واختشيت النشب وردني ذا العشق لأمر صعب حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي ياطالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة وترجع ذهب وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس وقعت له العجائب في هذه الطريقة من قوله في زجله المشهور‏:‏ ورزاذ دق ينزل وشعاع الشمس يضرب فترى الواحد يفضض وترى الآخر يذهب والنبات يشرب ويسكر والغصون ترقص وتطرب وبريد تجي إلينا ثم تستحي وتهرب شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل يامن يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول يقول بأن الذنوب تولد وأنه يفسد العقول لأرض الحجاز موريكن لك أرشد إيش ماساقك معي في ذا الفضول مر أنت للحج والزيارا ودعني في الشرب منهمل من ليس لو قدره ولا استطاع النية أبلغ من العمل وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابن جحدر الدي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا‏:‏ من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق قال ابن سعيد لقيتة ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله‏:‏ ياليتني إن رأيت حبيبي أفتل أذنو بالرسيلا ليش أخذ عنق الغزيل وسرق فم الحجيلا ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا امزج الأكواس واملالي تجدد ماخلق المال إلا أن يبدد ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم‏:‏ بين طلوع وبين نزول اختلطت الغزول ومضى من لم يكن وبقي من لم يزول ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى‏:‏ البعد عنك يابني أعظم مصايبي وحين حصل لي قربك سببت قاربي وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش وكان إماماً في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله‏:‏ لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله‏:‏ حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل تجددوا كل يوم خلاعا لاتجعلوا بينها ثمل إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات وطاقتها أصلح من أربعين ميل إن مرت الريح عليه وجاءت لم تلتق الغبار أمارا ولا بمقدار ما يكتحل وكيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا ونسرح فيه النحل وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامه بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية ويسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم‏:‏ دهر لي نعشق جفونك وسنين وأنت لا شفقة ولاقلب يلين حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السمكة بين الحدادين الدموع ترشرش والنار تلتهب والمطارق من شمال ومن يمين خلق الله النصارى للغزو وأنت تغزو قلوب العاشقين وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر‏:‏ طل الصباح قم يانديمي نشربو ونضحكو من بعد ما نطربو سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو والليل أيضاً للقبل والعناق على سرير الوصل يتقلبو جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو ويأكل طيبو قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب والعشق ترى ننجبو وتعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت ياقوم من ذا تتعجبوا نعشق مليح إلا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو ويدع ثيبو أما الكأس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو ويد الذي يحسن حسابه ولم يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا وأهل العقل والفكر والمجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا فميم كالخاتم وثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو جوهر ومرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم ولم يثقبو وشارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يجلبوا وزوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلا يا ريت ما أصلبو تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو أي دين بقا لي معاك وأي عقل من يتبعك من ذا وذا تسلبوا تحمل أرداف ثقال كالرقيب حين ينظر العاشق وحين يرقبو إن لم ينفس غدر أو ينقشع في طرف ديسا والبشر تطلبو يصير إليك المكان حين تجي وحين تغيب ترجع في عيني تبو ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربو من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو الشمس نورو والقمر همتو والغيث جودو والنجوم منصبو يركب جواد الجود ويطلق عنان الأغنيا والجند حين يركبوا من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد ووارد قط ماخيبوا قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو وقدبنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو يلقى الحروب ضاحكاً وهي عابسة غلاب هو لاشيء في الدنيا يغلبو إذا حبد سيفه مابين الردود فليس شيء يغني من يضربو وهو سمي الصصطفى والإله للسلطنة اختار واستنخبو وفي المعالي والشرف يبعدوا وفي التواضع والحيا يقربوا والله يبقيهم مادار الفلك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو ومايغني ذا القصيد في عروض ياشمس خدر مالها مغربو ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسموه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلاً مطلعها‏:‏ أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح وكف السحر يمحو مداد الظلام وماء الندى يجري بثغر الأقاح باكرت الرياض والطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار ودمع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار لووا بالغصون خلخال على كل ساق ودار الجميع بالروض دورالسوار وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ويحمل نسيم المسك عنها رياح تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من تربو الجديد في ردا ولكن بما أحمر وساقو خضيب ينظم سلوك جوهر ويتقلدا جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد والتوى في جناح وصار يشتكي مافي الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره وصاح قلت ياحمام أحرمت عيني الهجوع أراك ماتزال تبكي بدمع سفوح قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا والحزن من عهد نوح كذا الوفا وكذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح وأنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا والنواح قلت ياحمام لو خضت بحرالضنى كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون ولو كان بقلبك مابقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جملة تراني العيون وتخضبت من دمعي وذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد والجسم صار في الرماد فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر سماعة بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافاً إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل‏.‏ واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها‏.‏ فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهومن أهل تازا‏:‏ المال زينة الدنيا وعز النفوس يبهي وجوهاً ليس هي باهيا فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام والرتبة العاليا يكبر من كثر مالو ولو كان صغير ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير وكان ينفقع لولا الرجوع للقدر حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو ولا لو خطر لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا اللي صارت الأذناب أمام الرؤوس وصار يستفيد الواد من الساقيا عشنا والسلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب كبار النفوس جداً ضعاف الأسوس هم ناحيا والمجد في ناحيا يرو أنهم والناس يروهم تيوس وجوه البلد والعدمة الراسيا ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته‏:‏ تعب من تبع قلبو ملاح ذا الزمان أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك ما منهم مليح عاهد إلا وخان قليل من عليه تحبس ويحبس عليك يهبوا على العشاق ويتمنعوا ويستعدوا تقطيع قلوب الرجال وإن واصلوا من حينهم يقطعوا وإن عاهدوا خانوا على كل حال مليح كان هويتو وشت قلبي معو وصيرت من خدي لقدمو نعال ومهدت لو من وسط قلبي مكان وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك وهون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك حكمتوا علي وارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي إذا يبصرو ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان وإيش مايقل يحتاج لو يجيك حتى أتى على آخرها‏.‏ وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن‏.‏ ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال‏:‏ سبحان مالك خواطر الأمرا ونواصيها في كل حين وزمان إن طعناه أعظم لنا نصراً وإن عصيناه عاقب بكل هوان إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص‏:‏ كن مرعى قل ولا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول واستفتح بالصلاة على الداعي للإسلام والرضا السني المكمول على الخلفاء الراشدين والأتباع واذكر بعدهم إذا تحب وقول عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بو عزايم السلطان أحجاج بالنبي الذي زرتم وقطعتم لو كلاكل البيدا عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في إفريقيا السودا ومن كان بالعطايا يزودكم ويدع برية الحجاز رغدا قام قل للسد صادف الجزرا ويعجز شوط بعدما يخفان ويزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان لو كان ما بين تونس الغربا وبلاد الغرب سد السكندر مبنى من شرقها إلى غربا طبقاً بحديد أوثانياً بصفر لا بد الطير أن تجيب نبأً أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر ما أعوصها من أمور وما شرا لو تقرأ كل يوم على الديوان لجرت بالدم وانصدع حجرا وهوت الخراب وخافت الغزلان أدر لي بعقلك الفحاص وتفكر لي بخاطرك جمعا ما يدروا كيف يصوروا كسرا وكيف دخلوا مدينة القيروان أمولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس فقنا كنا على الجريد والزاب واش لك في إعراب إفريقيا القوبس ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس ملك الشام والحجاز وتاج كسرى وفتح من إفريقيا وكان رد ولدت لو كره ذكرى ونقل فيها تفرق الأخوان هذا الفاروق مردي الأعوان صرح في إفريقيا بذا التصريح وبقت حمى إلى زمن عثمان وفتحها ابن الزبيرعن تصحيح لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان وانقلب علينا الريح وافترق الناس على ثلاثة أمرا وبقي ما هو للسكوت عنوان إذا كان ذا في مدة البرارا إش نعمل في أواخر الأزمان وأصحاب الحضر في مكناساتا وفي تاريخ كأنا وكيوانا قال لي رأيت وأنا بذا أدري لكن إذا جاء القدرعميت الأعيان ويقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس وصاحب الأبواب ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه إلى آخر رحلته ومنتهى أمره مع أعراب إفريقية وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع‏.‏ وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية إلا أن أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته‏.‏ الموشحات والأزجال في المشرق وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا وتحته فنون كثيرة يسمون منها القوما وكان وكان ومنه مفرد ومنه في بيتين ويسمون دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها وغالبها مزدوجة من أربعة أغضان‏.‏ وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاؤوا بالعجائب ورأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف ويسمى صوتاً وبيتين‏.‏ وأنه من مخترعات أهل واسط وأن كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره‏:‏ الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين‏.‏ وأنشد فيه لنا‏:‏ بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو وأم الأخرس تعرف بلغة الخرسان‏.‏ انتهى كلام الصفي‏.‏ ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم‏:‏ هذي جراحي طريا والدما تنضح وقاتلي يا أخيا في الفلا يمرح قالوا ونأخذ بثأرك قلت ذا أقبح إلى جرحتي يداويني يكون أصلح ولغيره‏:‏ طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران في بحر أدمعي غارق ولغيره‏:‏ عهدي بها وهي لاتأمن علي البين وإن شكوت الهوى قالت فدتك العين لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك علي دين دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر والخمار والساقي قحباً ومن قحبها تعمل على إحراقي خبيتها في الحشى طلت من أحداقي ولغيره‏:‏ يا من وصالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح أودعت قلبي حوحو والتصبر بح كل الورى كخ في عيني وشخصك دح ولغيره‏:‏ ناديتها ومشيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يامي قالت وقد كوت داخل فؤادي كي ماظن ذا القطن يغشى فم من هو حي ولغيره‏:‏ راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه أسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه ولغيره‏:‏ يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ترعى النجوم وبالتسهيد اخاتت وأسهم البين صابتني ولافاتت وسلوتي عظم الله أجركم ماتت ولغيره‏:‏ هويت في قنطرتكم ياملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر وإن تهلل كما للبدر عندو ذكر ومن الذي يسمونه دوبيت‏:‏ قد أقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الأسحار يا نار أشواقي به فاقتدي ليلاً فعساه يهتدي بالنار واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية‏.‏ فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب‏.‏ لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم وكل واحد منهمل ممرذ لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته‏.‏ ‏"‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏"‏‏.‏ وقد كدنا أن نخرج عن الغرض ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له‏.‏ ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكرصحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثرمما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله وإنما عليه تحيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏ قال مؤلف الكتاب عفا الله عنه‏:‏ أتممت هذا الجزء الأول المثتمل على المقدمة بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة‏.‏ ثم نقحته بعد ذلك وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته‏.‏ وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم‏.‏